الإثنين 04 سبتمبر 2017
جرى في الآونة الأخيرة لغط كبير حول مفهوم الدولة العلمانية، وفي خضم الجدل والنقاش ضاعت الفكرة وبدا الجدل قريباً من السياسة وأبعد ما يكون عن مفهوم وجوهر العلمانية كفكرة ونظرية. ومفهوم العلمانية مفهوم ملتبس، وهو كباقي المفاهيم الاجتماعية والسياسية تطور في سياقات تاريخية متعددة وبالتالي اكتسب معاني أو بالأحرى ظلالاً من المعاني تشكلت مع تعرجات السياقات وتفاعلها عبر التاريخ مع الواقع الاجتماعي والسياسي.
وقد تطور المفهوم في أصوله الأوروبية في مسارات عدة بسبب الحروب الدينية التي رزحت تحت وطأتها الدول الأوروبية لسنين عدة. فأصبح الدين مرادفاً للحروب وبالتالي فإن بروز الدولة الحديثة في أوروبا تشكل مع فصل ما هو ديني عما هو دنيوي. وقد نسبت العلمانية إلى العالم الحالي بديلاً من العالم الأخروي.
ورغم أن كثيراً من الفلاسفة وخاصة في عصر التنوير الأوروبي تعرضوا لمفهوم الديني والدنيوي وضرورة فصل الاثنين عن بعضهما، والاهتمام بمصالح الناس وسعادتهم في هذا العالم وعدم تعلق حاجاتهم بالدين وطقوسه، إلا أن المصادر تشير إلى أن من صك مصطلح العلمانية كان الفيلسوف الإنجليزي جورج هوليوك (1817 - 1906). وقد نادى هوليوك باستقلال ما هو ديني عما هو دنيوي من دون تضارب أو حرب بين الاثنين.
ولكن الحالة الفرنسية كشفت عن تصادم كبير بين العلمانية والدين. ففي فرنسا تحالفت الكنيسة الكاثوليكية مع الإقطاع والنظام السياسي القائم. وعندما اشتعل فتيل الثورة الفرنسية توجهت سهامها ليس للنظام الملكي فحسب، بل لسلطة الكنيسة والتي كانت تعتبر من أكبر ملاك الأراضي. وقامت السلطة الجمهورية الوليدة بالسيطرة على ممتلكات الكنيسة وتوزيع الأراضي وبيعها. وعلاوة على ذلك فقد اعتبرت الحكومة رجال الدين موظفين لديها وأجبرتهم لاحقاً على الاعتراف بالدستور المدني. إلى أن أصدرت قوانينها المشهورة بداية القرن العشرين بالفصل بين الدين والدولة.
وبعكس المسار التصادمي الذي شهدته فرنسا، فإن تطور العلمانية في الولايات المتحدة كان تصالحياً. فلقد كان المستوطنون الأوائل ينظرون إلى أمريكا على أنها الأرض الموعودة ولهذا كانت كثير من الرموز التي استخدمت رموزاً دينية. بل إن كثيراً من المهاجرين إلى أمريكا هربوا من الاضطهاد الديني. وإلى يومنا هذا فإن قسم الولاء الأمريكي يتحدث عن وطن تحت إله واحد غير قابل للانشطار.
ورغم هذا فإن الدستور الأمريكي يحمي حرية الأديان ومساواة الجميع والعدالة في الحكم. كما أن الدستور والقوانين الأمريكية تفصل بشكل معقد بين الدين والدولة رغم اعتماد قيم الدين المسيحي في السياسة، ونجد الكثير من القادة الأمريكيين يفاخرون بأن قيمهم مستمدة من التقاليد اليهودية - المسيحية.
والعلمانية في العالم العربي تماهت مع مثيلتها الغربية ولكن تهادنت مع الدين الإسلامي. فالقومية العربية والتي هي نتاج للنهضة العربية في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، قامت على الهوية العربية المناهضة للهيمنة العثمانية وسياسة التتريك. ولهذا فقد تغلب الجانب القومي على الجانب الديني، ولا سيما أن بعض منظري القومية العربية كانوا من الطائفة المسيحية والتي كانت تروم مواطنة متساوية مع إخوانها العرب المسلمين. وقد عبر منظر البعث ميشيل عفلق في مقالته «ذكرى الرسول العربي» عن تداخل وترابط الدين والعروبة وأن هناك اختلاف جوهري بين علاقة الدين والقومية في أوروبا عن التجربة العربية. فالفصل بين الدين والقومية في أوروبا مرجعه أن الدين غريب على المجتمعات الأوروبية وعن تاريخها. وبالعكس من ذلك فان «الإسلام بالنسبة إلى العرب ليس عقيدة أخروية فحسب، ولا هو مجرد أخلاق مجردة، بل هو أجلي مفصح عن شعورهم الكوني».
ونلاحظ هنا أن مسارات العلمانية اختلفت من سياق إلى آخر. فهناك تصادم مع الدين وهناك تصالح مع الدين وهناك مهادنة مع الدين. فالتاريخ والجغرافيا والتطور السياسي والاجتماعي يشكلان مخارج العلاقة بين الدين والشأن العام أو الدولة. ما يجب أن نتعلمه من هذا الجدل والسجال أمر هام للغاية، وهو أنه يجب ألا يترك الجدل والنقاش حول قضية العلمانية للتنابز وتبادل الاتهامات، بل يجب أن يخضع النقاش للتمحيص العلمي العقلاني والخروج بنتائج تعزز من دور الدولة في المجتمع ولا تسيس الدين ولا تقحمه في السياسة، بل يجب حماية الدين من الأهواء والرغائب الأيدولوجية، ورفعه إلى مقامه الرفيع المقدس بعيداً عن المهاترات والأهواء السياسية التي تخدم مصالح فئات محددة دون الفئات الأخرى.